فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.سورة الممتحنة:

.تفسير الآيات (1- 3):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوَّكم أولياء} أي: أصدقاء، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنه لمّا تجهز رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لغزوة الفتح، كتب إلى أهل مكة، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرديكم، فخُذوا حِذركم. وفي رواية: كتب: إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يسير إليكم بجيشٍ كالليل، يسيل كالسيل، فالحذرَ الحذرَ، وأرسله مع ساره مولاة بني المطلب، وقيل: كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، فنزل جبريلُ عليه السلام بالخبر، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وعمّاراً، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد، وقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة، معها كتاب إلى أهل مكة، فخذوه منها، وخلُوها، فإن أبتْ فاضربوا عنقها» فأدركوها ثمة، فجحدت، فسلّ عليٌّ سيفه، فأخرجته من عِقاصِها. زاد النسفي: أنه عليه السلام أمَّن يوم الفتح جميعَ الناس إلاّ أربعة، هي أحدهم، فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، وقال: «ما حملك على هذا»؟ فقال: يا رسول الله! ما كفرتُ منذ أسلمتُ، ولا غششتُ منذ نصحتُ، ولكني كنتُ امرءاً مُلْصَقًا في قريش، ليس لي فيهم مَن يحمي أهلي، فأردتُ أن أتخذ عندهم يداً، وعملتُ أن كتابي لا يُغني شيئاً، فصدّقه صلى الله عليه وسلم، وقَبِلَ عُذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم» ففاضت عينا عمر رضي الله عنه، أي: من بكاء الفرح. والعَدُو: فَعُول، من: عدا، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد. وفي الآية دليل على أنّ الكبيرة لا تسلب الإيمان.
وقوله: {تُلْقٌونَ إِليهم بالمودةِ}: حال، أي: لا تتخذوهم أولياء مُلقين إليهم، أو: استئناف، أو: صفة لأولياء، أي: توصلون إليهم المودة، على أن الباء زائدة، كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195]، أو: تُلقون إليهم أخبارَ النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم وبينهم، فتكون أصلية. {وقد كفروا بما جاءكم من الحق}: حال من فاعل {تتخذوا} أو {تُلقون}، أي: لا تتولوهم، أو: لا تودوهم وهذه حالتهم يكفرون {بما جاءكم من الحق}؛ الإسلام، أو: القرآن، جعلوا ما هو سبب الإيمان سبب الكفر. {يُخرجون الرسولَ وإِياكم} من مكة، وهواستئناف مُبيَّن لكفرهم وعتوهم، أو حال من {كفروا}. وصيغة المضارع لاستحضار الصورة. وقوله: {أن تؤمنوا بالله ربِّكم} تعليل للإخراج، أي: يُخرجونكم لإيمانكم، {إِن كنتم خرجتمْ جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي}، هو متعلق ب {لاتتخذوا} كأنه قيل: لا تودُّوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
{تُسِرُّون إِليهم بالمودةِ} أي: تُفضون إليهم بمودتكم سرًّا، أو تُسِرُّون إليهم أسرارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بسبب المودة، وهو استئناف وارد على نهج العتاب والتوبيخ. {وأنا أعلمُ} أي: والحال أني أعلم منكم {بما أخفيتم وما أعلنتم} ومُطلِع رسولي على ما تُسِرُّون، فإني طائل لكم في الإسرار، وقيل: الباء زائدة، و{أعلم} مضارع و{ما} موصولة، أو مصدرية. {ومَن يَفْعله منكم} أي: الاتخاذ {فقد ضَلَّ سواء السبيل}؛ فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
{إِن يَثْقفوكم} أي: يظفروا بكم {يكونوا لكم أعداءً} أي: يُظهروا ما في قلوبهم من العداوة، ويُرتبوا عليها أحكامها، {ويبسُطُوا إِليكم أيديَهم وألسنتهم بالسوء}؛ بما يسوؤكم من القتل والأسر. {ووَدُّوا لو تكفرون} أي: تمنُّوا ارتدادكم. وصيغة الماضي لتحقُّق ودادهم قبل أن يثقفوكم.
{لن تنفَعَكُم أرحامُكُم}؛ قراباتكم {ولا أولادُكم} الذين تُوالون المشركين لأجلهم، وتتقرّبون إليهم محاماةً عليهم، {يومَ القِيامة يَفْصِلُ بينكم} وبين أقاربكم وأولادكم، بما اعتراكم من أهوال ذلك اليوم، حسبما نطق به قوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ...} [عبس: 34-36] الآيات، ويحتمل أن يكون ظرفًا ل {تنفعكم}، أي: لا تنفعكم أقاربكم يوم القيامة، ثم استأنف بقوله: {يفصل بينكم} لبيان عدم نفعهم. وهنا قراءات بيّنّاها في غير هذا. {والله بما تعملون بصير} فيجازيكم على أعمالكم.
الإشارة: أعدى الأعادي إليك نفسك، فهي عدوة لله ولرسوله ولأوليائه؛ لأنها أمّارة بالسوء، ويُضاف إليها جنودها، فيقال: {يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}، من النفس وجنودها، تُلقون إليهم بالمودّة والموافقة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق من طريق المجاهدة، يُخرجون الرسول: الوارد الحقيقي أو الإيمان العياني، من قلوبكم، ويُخرجونكم من الحضرة كراهةَ أن تُؤمنوا بالله ربكم إيماناً حقيقيًّا، إن كنتم خرجتم عن هواكم جهادًا في سبيلي، وابتغاء مرضاتي ومعرفتي، تُسِرُّون إليه بالمودة والموافقة، وأنا أعلم بما أخفيتم من الميل إلى حظوظها، وما أعلنتم، ومَن يفعله أي: الميل عن طريق المجاهدة فقد ضلّ سواء السبيل؛ طريق الوصول، فقد قيل: مَن رأيته يتبع الرُخص والشهوات، فاعلم أنه لا يأتي منه شيء. لن تنفعكم أقاربكم ولا حظوظكم، بدلاً من الله شيئًا ماذا وجَدَ من فقدك، فالحظوظ الفانية تفنى وتبقى الحسرة والندامة. يوم القيامة يفصلُ بينكم وبينها؛ لفنائها، أو بينكم وبين ما تشتهون من دوام النظرة، والله بما تعملون بصير، فيُجازي على قدر الكدّ والتعب.

.تفسير الآيات (4- 6):

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قد كانت لكم أُسوةٌ} أي: قدوة {حسنةٌ} أو: خصلة حميدة، حقيقة بأن يُرتقى بها ويُقتدى، كائنة {في إِبراهيمَ والذين معه} من أصحابه المؤمنين، أو: الأنبياء المعاصرين له، وقريبًا من عصره، ورجّحه الطبري وغيره؛ لأنه لم يروا لإبراهيم أتباع مؤمنون وقت مكافحته نمرودًا. وقد قال لسارة، حين رحل بها إلى الشام: ليس على وجه الأرض مَن يعبد الله غيري وغيرك. {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ}، جمْع بريء، كظريف وظرفاء، أي: نتبرأ منكم {ومما تعبدون من دون الله} من الأصنام، {كَفَرنا بكم} أي: بدينكم، أو: معبودكم، أو: بكم وبأصنامكم، فلا نعتد بشأنكم وبآلهتكم، {وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً} أي: هذا دأبنا أبداً {حتى تُؤمنوا بالله وَحْدَه} وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية، والبغضاء محبة.
وحاصل الآية: أنّ الحق تعالى يقول: إن كانت عداوة الكفار لكم إنما هي لأجل إيمانكم بالحق، فعادوهم أنتم، وكافحوهم بالعداوة، وأَظْهِروا البغضاء لهم والمقت، وصَرِّحوا أنّ سبب العداوة ليس إلاّ كفركم بالله، وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة، حتى إن أزلتموه انقلبت العداوةُ مولاةً، وأنتم مقتدون في ذلك بالخليل عليه السلام وسائر الأنبياء، حيث كافحوا الكفارَ بالعداوة، وتوكّلوا على الله. قال ابن عطية: هذه الأسوة مقيّدة بالتبرِّي من المشركين وإشراكهم، وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة على الإطلاق، في العقائد وفي أحكام الشرع. اهـ.
فلكم أسوة فيمن تقدّم. {إِلاَّ قولَ إِبراهيمَ لأبيه لأَستغفرنَّ لك}، وذلك لموعدةٍ وعدها إياه، أي: اقتدوا به في كل شيء، ولا تقتدوا به في استغفاره لأبيه الكافر. واستغفاره عليه السلام لأبيه الكافر جائز عقلاً وشرعاً قبل النهي، لوقوعه قبل تبيُّن أنه من أصحاب الجحيم، لكنه ليس مما ينبغي أن يُؤتسى به أصلاً. {وما أَمْلِكُ لك من الله من شيءٍ} أي: من هداية ومغفرة وتوفيق. وهذه الجملة من تمام قول المستثنى، كأنه قال: أستغفرُ لك وما في طاقتي إلاّ الاستغفار، إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر. {ربنا عليك توكلنا وإِليك أَنَبْنا} أي: أَقبلنا، {وإِليك المصيرُ}؛ المرجع وهو من تمام ما نقل عن إبراهيم عليه السلام ومَن معه مِن الأسوة الحسنة، وهو راجع لِما قبل الاستثناء، قالوه بعد المهاجرة ونشر البغضاء، التجاء إلى الله تعالى في جميع أمورهم، لاسيما في موافقة الكفرة، وكفاية شرورهم، وقيل: معناه: قولوا، فيكون أبتداء كلام خطاباً لهذه الأمة، وضعّفه أبو السعود. وتقديم المعمول لقصر التوكُّل والإنابة والمصير عليه تعالى.
{ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا} بأن تُسلطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نُطيقه، {واغفر لنا} ما فرط منا، {ربنا إِنك أنت العزيزُ} الذي لا يذلّ مَن التجأ إليه، ولا يخيب رجاء مَن توكل عليه، {الحكيمُ} الذي لا يفعل إلاَّ ما فيه حكمة بالغة.
وتكرير النداء للمبالغة في التضرُّع والالتجاء.
{لقد كان لكم فيهم}؛ في إبراهيم ومَن معه {أُسوةٌ حسنةً}، تكرير للمبالغة في الحث على الاقتداء به، ولذلك صدّره بالقسم. وقوله: {لمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر} بدل من {لكم}، وحكمته: الإيذان بأن مَن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم، وأنّ تركه مخلّ بالإيمان بهما، كما ينبئ عنه قوله تعالى: {ومَن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُّ الحميدُ}، فإنه إنما يُوعَد بأمثاله الكفرة، أي: هو الغني عن الخلق، الحميد المستحق للحمد وحده.
الإشارة: ينبغي للمريد أن يكون إبراهيميًّا، يتبرأ من كل ما يشغله عن الله، أيًّا مَن كان، ويظهر العداوة والبغضاء لكل مَن يقطعه عن مولاه، حتى يوافقه على طريقه وسيرته، إلاّ على وجه النصيحة والدعاء إلى الله، إن كان أهلاً لذلك، فيُذكِّر مَن خالفه في طريقه، فإن أيس منه استغفر له، ودعا له بالهداية، مُقرًّا بالعجز عن هدايته وتوفيقه، ثم يلتجئ إلى مولاه في جميع أموره، ويتحصّن بالله من فتنة أهل الظلم والغفلة. والله غالب على أمره.

.تفسير الآية رقم (7):

{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)}
يقول الحق جلّ جلاله: {عسى اللهُ أن يجعلَ بينكم وبين الذين عادَيْتم منهم}؛ من أقاربكم المشركين، {مودةً} بأن يُوافقوكم في الدين. وَعَدهم بذلك لما رأى منهم من التصلُّب في الدين، والتشديد في معاداة أقربائهم، تطييباً لقلوبهم، ولقد أنجز وَعْدَه الكريم، فأسْلَم كثير منهم يوم فتح مكة، فتصافوا، وتوادوا وصاروا أولياء وإخواناً، وخالَطوهم وناكَحوهم. و{عسى} من الله واجبة الوقوع. {واللهُ قديرٌ} أي: مبالغ في القدرة على تغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة، {واللهُ غفور رحيم}، فيغفر لمَن أسلم من المؤمنين ويرحمهم، أو: غفور لما فَرَط منكم من مولاتهم قبلُ، وما بقي في قلوبكم من ميل الطبع إلى الرحم بعدُ، رحيم لمَن لم تبقَ فيه بقية.
الإشارة: عسى الله أن يجعل بينكم وبين نفوسكم، التي عاديتموها وخالفتموها، وقطعتم مواد هواها، مودةً، حين تتهذّب وتتأدّب وترتاض بالمجاهدة، فالواجب حينئذ البرور بها، والإحسان إليها، لأنها انقلبت روحانية، تصطاد بها العلوم اللدنية، والمعارف الربانية، وفيها يقول شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
سايس من النفس جهدك ** صبّح ومس عليها

لعلها تدخل في يدك ** تعود تصطاد بها

فالآية تسلية وترجية لأهل المجاهدة من السائرين دون الواصلين؛ فإنّ المجاهدة لا تكون إلاّ قبل المشاهدة، أو: تكون تسلية لهم عند مقاطعة أقاربهم وعشائرهم، حين فرُّوا عنهم لله، بأن يهديهم الله، حتى يوافقوهم على طريقهم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (8- 9):

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}
يقول الحق جلّ جلاله: {لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تَبروهم} أي: لا ينهاكم عن البر بهؤلاء، ف {أن تبروهم}: بدل من الموصول، {وتُقْسِطوا إِليهم} أي: تقضوا إليهم بالقسط، أي: بالعدل، ولا تظلموهم، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك، فكيف في حق المسلم؟ {إِن اللهَ يُحب المُقسِطين}؛ الحاكمين بالعدل، رُوِي أن قُتَيلةَ بنت عبد العزى قَدِمَتْ مشركة على بنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه، بهدايا، فلم تقبلها، ولم تأذن لها بالدخول فنزلت، وأمرها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تقبل منها، وتُكرمها، وتُحسن إليها. وقيل: المراد بهم خزاعة، وكانوا صالحوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ألاّ يقاتلوه، ولا يُعينوا عليه. قال المحلي: وهذا قبل الأمر بجهادهم. ومثله لابن عطية، فإنه نقل الخلاف، ثم قال: وعلى أنها في الكفار فالآية منسوخة بالقتال. اهـ.
قال الكواشي: نزلت رخصة في صلة الذين لم يُعادوا المؤمنين ولم يُقاتلوهم. ثم قال: وفي هذه الآية دلالة على جواز صلة الكفار، الذين لم ينصبوا لحرب المسلمين، وبِرهم، وإن انقطعت الموالاة بينهم. اهـ. قال القشيري: مَن كان فيهم حُسن خُلق، أو للمسلمين منهم رِفْق، أُمروا بالملاينة معهم، شاهد هذه الجملة: إنَّ الله يُحب الرِّفق في الأمر كله. اهـ. المحشي. وهذا: فيما لا ضرر فيه للمسلمين، وفي المدارك: حكى الدارقطني أنَّ عبدَ وزيرِ المعتضد دخل على القاضي إسماعيل وكان نصرانيّاً فقام له ورحّب به فرأى إنكار مَن عنده فقال: علمت إنكاركم، وقد قال تعالى: {لا ينهاكم الله...} الآية، وهذا رجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا مَن البر، فسكت الجماعةُ عند ذلك. اهـ. قال البرزلي: ولعله رأى ذلك ضرورة، وتأنّس بظاهر الآية، وخاف مِن أذاه إن لم يفعل ذلك. اهـ.
وفي حديث الجامع: «بُعثتُ بمداراة الناس»، قيل: والفرق بينها وبين المداهنة: أنَّ المداهنة: إظهار الرضا بفعل الفاسق من غير إنكار عليه، والمداراة: هي الرفق في تعليم الجاهل، والملاطفة في نهي الفاسق عن فعله، وقد قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه: 44]، وقيل: المداهنة: ترك الدين بالدنيا، والمداراة: بيع الدنيا بحفظ الدين.
وقد عَدّ السهروردي في الآداب مِن رُخص الصوفية: التكلُّف مع أبناء الدنيا والرؤساء والسلاطين، والقيام لهم، وحسن الإقبال عليهم، والأدب في ذلك: إلاّ يكون طمعاً في دنياهم، ولا اتخاذ جاه عندهم كان صلى الله عليه وسلم يدخل عليه سادات قريش فيُكرمهم، ويُجلهم، ويُحسن مجالستهم، وقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرِموه» اهـ.
وانظر الأصل الرابع والثمانين في إنزال الناس منازلهم، فقد ذكر فيه: أن العاقل عن الله يُعاشر الناس على ما دبَّر الله لهم، فالغَنِيّ قد أكرمه الله كرامةَ ابتلاء، كما ذكر في تنزيله، فإذا لم تُنزله المنزلةَ التي أنزله الله فيها، فاستهنت به، وحقّرته من غير جرم استحق بذلك الجفاء، فقد تركتَ موافقة الله في تدبيره، وأفسدت عليه دينه وأثمتَه، وكذلك معاملة الملوك والوُلاة على هذا السبيل، فإذا عاملت الملوك والسلاطين بمعاملة الرعية، فقد استخففت بحق السلطان، وكيف يجوز أن تستخف بحقه، والسلطان ظل الله في الأرض؟ به تسكن النفوس، وتجمع الأمور، والناظر إلى ظل الله عليهم في الشغل عن الالتفات إلى أعمالهم.
ثم ذكر أنّ ضد ما ذكر مِن ضعف المعرفة واليقين، وعدم التخلُّص من النفس، فلم تكن لقوتِهم مطالعة ما ذكر، فخافوا على نفوسهم من مخالطتهم أن يجدوا حلاوة بِرهم، فتخلط قلوبُهم بقلوبهم، فجانبوهم، والآخرون نظروا إليهم بغير الجمع، فشغلوا بما ألبسَهم مِن ظله عن جميع ما هم فيه، فلم يضرهم اختلاطهم بهم. وبهذه القوة كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون الأمراء، الذين قد ظهر جَوْرهم، ويقبلون جوائزهم، فكان ابن دينار ومحمد بن واسع، ومَن قبلهم، والحسن البصري، يلقون الأمراء ويَقبلُون منهم، فكانوا يلقونهم بما ذكر من رؤية ظل الله عليهم، ويُظهرون العطف عليهم والنصيحة لهم.
ثم وَجَّه حديثَ ابن عباس: ملعون مَن أكرم بالغنى وأهان بالفقر فإنَّ معناه: مَن عظَّم الدنيا وعظَّم أهلها، فأمّا مَن دقت الدنيا في عينه، يرى أهلَها مُبْتَلون بها، بما تقتضيه من القيام بالشكر، ثم غرقه في حِسَابه، فيرحمه كما يرحم الذي ذهب به السيل، ويكرمه، ويبره بما عَوّده الله، وأبقاه على دينه، لئلا يَفسد، فذلك فعل الأنبياء والأولياء، وبذلك وصَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه» فهو إنما يُكرم لله ويهين لله، لا للدنيا، ومن فعل ذلك للدنيا كان ملعونًا، ثم ذكر حديث: «مَن أُعطي حظه من الرفق أُعطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة، من حُرمه حُرم كذلك»، ثم ذكر قصة نسْطُور صاحب ابن مريم عليه السلام ورفقه وتلطُّفه مع ذلك الملك الذي سجن صاحبيْه حتى استخلصهما منه برفق، وأعلم الملكَ وجميعَ الناس في قضية عجيبة، فعليك بها.
{إِنما ينهاكم اللهُ عن} موالاة {الذي قاتلوكم في الدين وأَخْرَجوكم من دياركم}، وهم عتاة أهل مكة، {وظاهَرُوا} أي: عاوَنُوا {على إِخراجكم} وهم سائر أهلها، {أن تَوَلَّوْهم}: بدل اشتمال من الموصول، والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة مَن لم يتعرّض لكم، إنما ينهاكم عمّن أذاكم {أن تَولَّوهُم ومَن يتولهمْ فأولئك هم الظالمون} حيث وضعوا التولي في غير موضعه.
الإشارة: لا ينهاكم الله عن النفوس المطيعة، التي لم تصدكم عن السير إلى الحضرة، أن تبرُّوا بها، وترفقوا بها، إنما ينهاكم عن النفوس الفاجرة، التي قاتلتكم، وصدّتكم عن الحضرة، وأخرجتكم عن دائرة الولاية، باتباع هواها أن تولوها، وتسعوا في حظوظها وهواها، ومَن يتولها، وبقي في رِقَّها؛ فقد ظلم نفسه وبخسها، حيث حرمها نعيمَ الحضرة. أو: لا ينهاكم الله عن بعض العامة، التي لا مضرة فيهم، أن تبرهم بالوعظ والتذكير، وتُقسطوا إليهم بقول الإحسان، إنما ينهاكم عن أهل الإنكار المخالفين لكم، من الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والعلماء المتجبرين، والفقراء الجاهلين، أن تولوهم؛ فإنَّ مخالطتهم سم قاتل للمريد، ومَن يتولهم لا يُفلح أبدًا.